من روح مؤتمر باندونغ إلى نقطة انطلاق جديدة للعلاقات الصينية العربية

من روح مؤتمر باندونغ إلى نقطة انطلاق جديدة للعلاقات الصينية العربية

الصين/ MNA

بقلم ليو لي هوا (منى )، باحثة في جامعة صون يات سين ، أمينة عامة في معهد الدراسات الإقليمية والدولية بجامعة صون يات سين

يُعد مؤتمر آسيا وأفريقيا المنعقد في عام 1955، المعروف بمؤتمر باندونغ، محطة تاريخية مهمة شهدت لأول مرة وقوف الدول المستقلة حديثًا على المسرح الدولي بصوت جماعي، مما شكّل وعيًا جماعيًا لدى دول الجنوب العالمي في مواجهة الاستعمار، والسعي نحو الاستقلال الوطني، والدفاع عن السيادة. وقد أرست المبادئ الأساسية التي تمخض عنها المؤتمر مثل “احترام السيادة والسلامة الإقليمية، عدم الاعتداء، عدم التدخل في الشؤون الداخلية، المنفعة المتبادلة، والتعايش السلمي” أساسًا سياسيًا للتعاون بين دول آسيا وأفريقيا، كما وفّرت دعمًا فكريًا وفرصًا واقعية لتواصل سياسي ودبلوماسي بين الصين والدول العربية.
في المؤتمر، شدد رئيس الوزراء الصيني شو إن لاي على أن استمرار الاستعمار، وقمع الشعوب التابعة، والتمييز العنصري، وحرمان الشعوب من حقوقها، لا تزال تهدد حرية وكرامة شعوب آسيا وأفريقيا. ودعا إلى تعزيز تقرير المصير والتعايش السلمي على أساس المساواة والعدالة، وهو ما يتماشى مع مطالب الدول العربية في مرحلة التحرر من الاستعمار، خصوصًا في تونس، المغرب، الجزائر، ومع عدالة قضية فلسطين. وقد لقي دعم الصين العلني لقضية العدالة ضد الاستعمار ترحيبًا واسعًا واستجابة إيجابية من الدول العربية.
بعد المؤتمر، شهدت العلاقات بين الصين والدول العربية موجة دبلوماسية مهمة، حيث تطورت من الاعتراف السياسي الأولي إلى شراكة استراتيجية شاملة. في عام 1956، أقامت الصين علاقات دبلوماسية مع مصر، لتكون أول دولة عربية تقيم علاقات رسمية مع الصين، في خطوة عكست التوافق في المواقف المناهضة للاستعمار، وأظهرت رغبة الصين في الاندماج في صفوف الدول الآسيوية والأفريقية المقاومة للإمبريالية. تلتها لاحقًا دول عربية مثل سوريا (1956)، المغرب (1958)، العراق (1958)، والجزائر (1958) في إقامة علاقات دبلوماسية مع الصين، مما أسس لنمط تعاون أولي قائم على الثقة السياسية. في هذه المرحلة، تعاون الجانبان ضمن منصات متعددة الأطراف مثل الأمم المتحدة ومؤتمر باندونغ للدفاع عن مصالح الدول النامية، مما عزز الأساس السياسي المشترك.
مع استعادة الصين لمقعدها الشرعي في الأمم المتحدة عام 1971، دخلت العلاقات الصينية العربية مرحلة تسارع في النمو. وبصفتها من الداعمين الرئيسيين لشرعية الصين الدولية، عززت الدول العربية تفاعلها الدبلوماسي مع الصين. خلال هذه الفترة، أقامت كل من سلطنة عمان (1978)، الإمارات العربية المتحدة (1984)، قطر (1988)، والبحرين (1989) علاقات دبلوماسية مع الصين، مما أكمل البنية الدبلوماسية الصينية في منطقة الخليج. كما شهدت هذه المرحلة إقامة العلاقات مع المملكة العربية السعودية عام 1990، مما أنهى الفراغ في العلاقات بين الصين والدولة النفطية الكبرى في الشرق الأوسط. في الوقت نفسه، بدأت الصين والدول العربية في استكشاف سبل التعاون في مجال الطاقة، حيث أصبحت الدول العربية موردًا رئيسيًا للنفط والغاز الطبيعي للصين.
من تسعينيات القرن الماضي وحتى أوائل القرن الحادي والعشرين، دخل التعاون الصيني العربي مرحلة التعمق العملي، تزامنًا مع النمو السريع للاقتصاد الصيني وتعاظم مكانتها الدولية. وشكّل إنشاء منتدى التعاون الصيني العربي عام 2004 منصة مؤسساتية للحوار والتعاون، مما عزز التفاعل على المستويات الحكومية والاقتصادية والمجتمعية. أصبحت دول مثل مصر، الإمارات، والسعودية شركاء رئيسيين في مشاريع البنية التحتية والاستثمار والتبادل التجاري مع الصين. كما أسهم التوافق بين “رؤية السعودية 2030” ومبادرة “الحزام والطريق” في نقل التعاون من التركيز على الطاقة إلى مجالات جديدة مثل التنويع الاقتصادي، التحديث الصناعي، والتنمية الخضراء.
منذ عام 2010، دخلت العلاقات الصينية العربية مرحلة الشراكة الاستراتيجية. أقامت الصين شراكات استراتيجية شاملة مع كل من مصر (2014)، الجزائر (2014)، السعودية (2016)، الإمارات (2018)، والبحرين (2024)، مما عزز التنسيق في الشؤون الدولية، ودفع التعاون متعدد الأطراف قدمًا. وتركز التعاون حاليًا على مجالات رئيسية مثل بناء “الحزام والطريق”، الاقتصاد الرقمي، الطاقة المتجددة، وترابط البنية التحتية، لتشكل شبكة تعاون متعددة الأبعاد تشمل السياسة، الأمن، الاقتصاد، والثقافة. وحقق التعاون في المجال الأمني تقدمًا جديدًا، خصوصًا في مكافحة الإرهاب، عمليات حفظ السلام، والأمن السيبراني. كما ينسق الجانبان مواقفهما في المحافل الدولية مثل الأمم المتحدة، ويدعوان إلى نظام عالمي أكثر عدلاً وإنصافًا.
نستنتج أن تطور العلاقات الصينية العربية منذ مؤتمر باندونغ هو عملية ديناميكية قائمة على الذاكرة التاريخية المشتركة، والثقة الاستراتيجية، والمصالح الواقعية. فقد مهّد مؤتمر باندونغ الطريق للتواصل الدبلوماسي بين الصين والدول العربية، وأسّس لقاعدة من التضامن السياسي على أساس التجربة التاريخية المشتركة والمطالب السياسية العادلة. وعلى مر العقود، عزز الطرفان تعاونهما من خلال الدعم السياسي، التكامل الاقتصادي، والتنسيق الاستراتيجي، وحققا نتائج مثمرة ومؤثرة. وفي ظل التحولات الكبرى في هيكل الحوكمة العالمية، من المتوقع أن يواصل الجانبان توظيف مزاياهما لتعزيز التعاون نحو مستويات أعلى، ليكون نموذجًا للعلاقات الدولية الجديدة والتعاون جنوب-جنوب.