رواتب الإقليم… حقوق مؤجلة .. على طاولة الخلاف..

ثائرة اكرم العكيدي/كاتبة وباحثة
لم تعد قضية رواتب موظفي إقليم كردستان مجرد مسألة مالية أو إدارية بل تحولت إلى ورقة ضغط سياسية تُلوّح بها الأطراف كلما اشتد الخلاف بين بغداد وأربيل. وكأن الموظف الذي يستيقظ فجراً ليذهب إلى دوامه صار مجرد رقم في دفاتر التهديد والوعيد أداة مساومة يتقاذفها الساسة ويزايدون بها في مؤتمراتهم وتصريحاتهم العنترية.
في كل مرة تعلن الحكومة الاتحادية أنها سترسل الأموال “خلال أيام” يتنفس الناس الصعداء على أمل أن تُفتح أبواب المصارف قريباً. ثم تأتي المفاجآت المعتادة: حجة التدقيق ذريعة العجز رواية “الملاحظات الفنية” ومسرحية البحث عن توقيع لا أحد يعرف إن كان موجوداً أصلاً. وهكذا يكتشف الموظف أن راتبه مؤجل إلى إشعار آخر وأن لقمة عيشه مرهونة بمكالمة هاتفية أو “زيارة بروتوكولية” بين مسؤولين لا يعرفون شيئاً عن ضيق حاله.
أما حكومة الإقليم فقد أتقنت بدورها لعبة العزف على وتر المظلومية. كلما تأخرت الرواتب، ارتفعت نبرة الخطاب "حقوق شعب كردستان" "عقاب جماعي" "تجويع الشعب" لتتحول معاناة الناس إلى صدى إعلامي وسلاح يلوّح به في وجه بغداد، بدلًا من أن تكون دافعا لإصلاح الإدارة وترشيد الموارد.
من يراقب المشهد عن بُعد يظن أن هذه الرواتب خرافية وأن الموظف في الإقليم يتقاضى آلاف الدولارات ويعيش في نعيم لا يُوصف. الحقيقة أن الرواتب في معظمها لا تكفي لتغطية أبسط الاحتياجات اليومية ومع ذلك يجري التلاعب بها وكأنها “مكافأة” تمنحها الدولة لمن ترضى عنه وتحجبها عمن يغضبها.
اللافت أن هذا الانسداد المتكرر في ملف الرواتب يكشف عن عجز الدولة العراقية برمتها – اتحادية كانت أم إقليمية – عن بناء نظام مالي عادل وشفاف. فلا الحكومة الاتحادية قادرة على فرض معايير واضحة لتسليم الأموال، ولا حكومة الإقليم استطاعت إقناع أحد بأن مواردها تُدار بشفافية. وما بين الشك والاتهامات المتبادلة، يغرق المواطن في دوامة انتظار لا تنتهي.
هل فكر أحدهم يوماً كيف يقف الموظف أمام أطفاله حين يسألونه عن راتب لم يصل؟ كيف يواجه صاحب الإيجار، وبائع الخضار، وصاحب المولدة؟ أي كرامة بقيت لمن صار مرتبه مسألة تفاوضية ومزاداً يدار خلف الأبواب المغلقة؟
وعلى مدار سنوات تحولت قضية رواتب موظفي إقليم كردستان إلى أزمة دورية تكشف هشاشة العلاقة بين المركز والإقليم وتفضح ضعف البنى المالية والإدارية لدى الجانبين. فالمشكلة أبعد من تأخر دفعات مالية هي بنية اقتصادية ريعية غياب الشفافية وإفراط في تسييس الحقوق الأساسية.
في التحليل الاقتصادي يعتمد الإقليم اعتماداً شبه كلي على تحويلات بغداد رغم أنه يمتلك موارد نفطية كبيرة ومنافذ حدودية نشطة. ومع كل أزمة مالية يعود الجدل نفسه: لماذا لا تغطي عائدات النفط المحلي والكمارك رواتب الموظفين؟ وأين تذهب الإيرادات غير المعلنة؟ في المقابل تستخدم الحكومة الاتحادية سلاح الرواتب للضغط السياسي، فتلجأ إلى “التدقيق” و”المراقبة” لتعليق الصرف أو تقليصه. وهكذا يدخل الملف في دوامة انعدام الثقة والاتهامات.
جذور المشكلة:
1- غياب الشفافية المالية: لا توجد قاعدة بيانات موحدة توثق الإيرادات والنفقات الفعلية في الإقليم.
2- سوء توزيع الموارد: جزء كبير من الإيرادات يُهدر على النفقات التشغيلية والإنفاق غير المنتج.
3- التسييس المفرط: الرواتب تُستخدم أداة ضغط متبادل بدلًا من كونها حقاً ثابتاً.
4- الاعتماد المفرط على النفط: غياب تنويع الاقتصاد يحول كل هزة في السوق أو الخلاف السياسي إلى أزمة خانقة.
مقترحات حلول عميقة:
1- إنشاء صندوق مالي مشترك:
فتح حساب مشترك بين وزارة المالية الاتحادية ووزارة المالية في الإقليم.
تُودع فيه جميع الإيرادات النفطية وغير النفطية.
يكون خاضعاً لرقابة ديوان الرقابة المالية الاتحادي وإشراف دولي استشاري مؤقت.
يضمن الصندوق دفع الرواتب اولا قبل أي التزامات أخرى.
2- قاعدة بيانات موحدة للموظفين:
ربط بيانات موظفي الإقليم بقاعدة البيانات الاتحادية.
اعتماد نظام الـ Biometric لمنع تكرار الأسماء والوهميين.
نشر إحصاءات دورية للرواتب وأعداد الموظفين بشكل علني.
3- تنويع مصادر التمويل:
تفعيل قطاع الزراعة والصناعة المحلية لخلق مصادر دخل داخلية.
فرض رسوم عادلة على المنافذ الحدودية وتوجيهها مباشرة لصالح الرواتب.
تشجيع استثمار القطاع الخاص مع ضمان حصة ثابتة من أرباح المشاريع الكبرى لصندوق الرواتب.
4- تحييد الرواتب عن النزاعات السياسية:
إصدار قانون اتحادي يكرس الرواتب كحق دستوري غير قابل للتعليق.
إخضاع أي خلاف مالي بين الحكومتين للتحكيم القضائي أو لجنة اتحادية عليا، وليس للمساومة السياسية.
5- إصلاح هيكل الإنفاق العام:
إعادة تقييم الرواتب العليا والمخصصات الكبيرة غير المبررة.
تقليص النفقات الحكومية الثانوية لصالح تأمين استدامة الرواتب الأساسية.
6- الشفافية الإعلامية:
إلزام الطرفين بإصدار تقارير شهرية مفصلة عن حركة الأموال.
تمكين المنظمات المدنية والصحافة من الاطلاع على البيانات.
"خلاصة"
إن حل أزمة رواتب الإقليم لا يحتاج فقط إلى إرسال أموال بل إلى إرادة حقيقية لتأسيس منظومة مالية شفافة مستدامة، وإلى شجاعة سياسية لتحييد قوت الناس عن الصراع. وإلا ستبقى الرواتب تُستعمل ورقة ابتزاز يكتوي بنارها المواطن البسيط الذي لا يطلب أكثر من حقه في حياة كريمة.
وإن أزمة رواتب الإقليم لم تعد شأناً داخليا، بل تحولت إلى مرآة تعكس عمق الفساد والعجز والتسييس الذي يلتهم مؤسسات الدولة العراقية. وربما الأخطر أنها تُطبع مع ثقافة إذلال الموظف وتحويله إلى رهينة.
في النهاية تبقى الحقيقة المريرة: الموظف لا يريد أكثر من راتبٍ يليق بجهده، ودولة تحترم التزاماتها. لا يريد خطابات حماسية ولا مؤتمرات استعراضية. فقط راتب يُصرف في موعده دون ابتزاز أو إهانة..